المقال الشهري (22) / لفضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن خدة -حفظه الله-

  • الخميس, 05 تشرين1/أكتوير 2017 04:59
  • حجم الخط
  • No comment

[وقفة وعبرة!]


قال فضيلة الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن خدة -حفظه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأعزّ الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على أفضل العرب والعجم، نبيّنا محمد خير من عفا وحَلِم، ومَنْ بالصفح وُسِم، وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتدى والتزم، وبعد:


فإن في سيرة نبيّنا الغرّاء وقفات كثيرة، ومحطّات وفيرة، لو نظرنا فيها نظرة تبصّر وتفكير، وتأمّل وتدبير، لظهر لنا جليّا الكثير من ملامح المنهج الذي ينبغي أن نتعامل به مع الكثير من الأحداث التي نعيشها، أو نصطدم بها، أو قل ـ إن شئت ـ نُلْزَمُ بها إلزاما، وقد أردت ها هنا أن أشير إلى موضع من مواضع السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.


إنها حادثة ما كان يعانيه ضعفاء المسلمين بمكّة المكرّمة. ومن ذلك ما جاء من حديث جاير بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بعمّار وأهله وهو يعذّبون، فقال " أبشروا آل عمّار وآل ياسر فإنّ موعدكم الجنّة"[1].


عن سعيد بن جبير قال (قلت لابن عباس يا أبا عباس أكان المشركون يبلغون من المسلمين في العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ فقال: نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى أنه ليعطيهم ما سألوه من الفتنة وحتى يقولوا: آللّات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، وحتى أن الْجُعْلَ ليمرّ بهم فيقولون أهذا الْجُعْلُ إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم لما يبلغون من جهده)[2].


وقد روى أهل السّيَر هذه التجاوزات التي سلّطتها قريش على المستضعفين بمكّة، فكانوا يخرجونهم في شدّة الرّمضاء، ويعذّبونهم بها، وربما أحرقوهم بالنار، وربما يضعون عليهم شيئا من الحديد بعد أن يشتدّ حرارة، وهم في رمضاء مكّة، فيمرّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ويبشّرهم بالجنّة، فصبروا على ذلك، وكان منهم من مات صبرا على الإسلام، منهم سميّة رضي الله عنها وأرضاها، أوّل شهيدة في الإسلام. وهكذا تعرّض غيرهم لمثل هذا التّعذيب كبلال بن رباح وغيره رضي الله عنهم جميعا.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يمرّ عليهم ويثبّتهم، ويصبّرهم.


كما كان يشير على بعض الصحابة ممّن تيسّرت حاله أن يشتري هؤلاء المستضعفين، فيصيرون من عبيده، وبذلك يكون قد أنقذهم من هذا العذاب الذي يُنّكلون به.


وقد اشترى أبو بكر الصّديق رضي الله عنه سبعة منهم، كما تروي لنا كتب السّيرة.



فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْتَقَ مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللهِ سَبْعَةً فذكر منهم الزِّنِّيرَةَ قَالَ فَذَهَبَ بَصَرُهَا وَكَانَتْ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَصَابَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى. فَقَالَتْ: كَلَّا، وَاللهِ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا»[3] .


وكان الصديق رضي الله تعالى عنه إِذا مرّ بأحد من الموالي يعذَّب يشتريه من مواليه[4].


وكانت سيدة خبّاب بن الأرت - رضي الله عنه - توقد نارًا فتلقيه عليها، فلا يطفئ لهيبها إِلاّ ودك ظهره[5]. ومن شدّة ما كانوا يعانونه رضوان الله تعالى عليهم قال خَبَّابٌ رضي الله عنه «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وهو فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ:" لقد كان مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ- زَادَ بَيَانٌ: "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ»[6].


هذا ما بلغه مقدار الحقد والحنق على أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي السير الكثير من الوقائع، سواء ما ورد في الكتاب والسنة، وسواء ما تعلّق بهذه الأمة، أو بالأمم السابقة.


وانظر في ذلك ما فعله فرعون بالسّحرة بعد إسلامهم، وهكذا غيره مع أهل الإسلام.


ومثل هذا النكال من أعداء الإسلام لم يزل تتكرّر، فمتى وجدوا لذلك سبيلا إلّا و نكّلوا بالمسلمين أشدّ النّكال. وكتب السير والتراجم تحفظ لنا الكثير من هذه الصّور، بدء من بعثته صلى الله عليه وسلّم، وما بعد ذلك, ومرورا بالتتار، ولا يزال الأمر كذلك إلى هذا الزّمان.


ولا أظنّ أن أحدا ينسى ما جنته أيدي الكفر في مسلمي البوسنة ومن بتلك الدّيار، ولعلّ ما خفي أعظم ـ مما لا تَطُلْه أو لا تصل إليه ، عجزا أو منعا ، آلات النقل الحديثة ـ ، من وحشيّة وهمجيّة في التعذيب والتشريد وغير ذلك مما يخالف الإنسانيّة.



ثمّ يزعمون أنهم أهل السلام والأمن العالمي. وأنهم يسعون لحماية الإنسانية، بل والأقليّات، إلى غير ذلك من الشّعارت البرّاقة، التي ليس في طيّاتها إلّا التزييف والحماقة، ويكثرون منها ليشغلوا هذه الأمة عن الإفاقة.


وإن من هذه الصور التي تنمي عن شدّة الحقد ما نسمع به مما يقع بأرض ميانمار ـ أرض أراكان ـ من الجرائم البشعة على مرأى من العالم أجمع. من تعذيب وتقتيل وتحريق وكلّ أنواع العذاب، وما كلّ هذا التعذيب إلّا لأنهم آمنوا ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج/8-9]. (...الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ...) [الحجّ/40].


فأين دعاة السلام؟


وأين الجمعيات الداعية لحماية الإنسانية؟


هل غاب عنهم كلّ ما يحدث؟ أم لم يتأكّدوا بعد منه؟ أم الأمر يحتاج بعد إلى تحقيق؟ كما فعلوا في قضية البوسنة، حتى إذا قتّل المجرم الآلاف من المسلمين، ويتّم ورمّل مثل ذلك، وشرّد مثل ذلك،
عندها جاء دعاة الأحلام، وزعموا أنه لا بد من إحلال السلام، فقُبل منهم ذلك، ومن دون ملام.


وعلى كلٍّ فلنا في السيرة ما نتأسّى به، ونستأنس به، ونتسّلى به، وليس لنا إلا أن نعتبر من سيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم.


فندعو لإخواننا المسلمين هناك ـ وفي كل أرض يستضعف فيها أهل الإسلام ـ أن يرفع الله تعالى عنهم ما هم فيه من الضّرر، وأن يرزقهم الصبر، ويثبّتهم على الحقّ. وهذا واجب كل مسلم، لا يتوانى أبدا عن نصرة إخوانه بالدّعاء، وهوما نملك، بل وأعظم ما نملك.


ونستفيد من السّيرة أنه يجب على من كان يستطيع إنجاء هؤلاء من الظلم الذي يتعرّضون له أن يبادر ويفعل. وأوّل من يخاطب بذلك هم الحكومات الإسلامية، كلّ منها بما تستطيعه من قدرة ومكنة واستطاعة.



ولا ينظر أحد إلى ضعف هؤلاء، وكأنه يوازن بين إعانته لهم، وما الذي سيستفيده منهم، فلا يرى في ذلك نفع.


ولنا في فعل أبي بكر رضي الله عنه خير القدوة والأسوة، فقد كان يشتري الضعفاء، فيقول له والده: لو غير هؤلاء ـ أي من أهل القوّة ـ حتى يستطيعوا الدّفع عنه.


فالمسؤوليّة واقعة على الجميع، وكلّ بما يستطيع، ولا ينفع التحسّر وتراشق التّهم، والنبز والنبذ.


نعم، المسلم يتأذّى مما يسمعه بين فينة وأخرى، مما يقع لإخواننا، لكن لنتصبّر على هذا الأذى الذي يقع عليهم، وهو في الحقيقة نحسّ به فهو كالواقع علينا كذلك، ولا بد للمسلم من أن يحسّ به، ومن فوائد تبويبات البخاري رحمه الله تعالى أنه ذكر في كتاب المغازي بابا في أدى المشركين للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ثمّ ذكر مجموعة من الأحاديث في أذى كفار قريش للمستضعفين من الصحابة رضي الله عنه، فكأن البخاري رحمه الله تعالى يشير بتبويبه هذا إلى أن أذى المشركين على الصحابة هو نفسه كذلك أذى عليه هو عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك إنما كان يملك لهم الدعاء، فكان يدعو لهم. ,غذا مرّ بهم أو رآهم حثّهم على الصبر. ثمّ أمر من استطاع منهم أن يخرج إلى الحبشة فليخرج.
فواجبنا الدعاء لإخواننا، وحثّهم على الصبر، ومن استطاع إنجاء عدد منهم ـ قلّ أو كثر ـ بوساطة أو شفاعة أو غير ذلك فلا بد عليه أن يفعل.


اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الكفرة والمشركين، ودمّر أعداء الدّين، فإنّهم لا يعجزونك يا ربّ العالمين، اللهم انصر عبادك المستضعفين في كلّ مكان، اللهم أيّدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، وقوّهم بعونك والمدد منك، وأنزل الصبر واليقين عليهم. اللهمّ واقذف الرّعب في قلوب أعدائهم، فلا يقووا على الأذى لهم.


اللهمّ إنّهم بتلك الأرض يعبدونك ويصلون لك، ويريد الأعداء أن يقضوا عليهم حتى لا يبقى بتلك الأرض من يوحّدك ويشهد لك بالوحدانية ولرسولك بالرسالة، اللهمّ فكن لهم يا ربّ العالمين.
اللهم أبرهم لهذه الأمة أمر رشد وصلاح ترفع فيه راية الإصلاح، وتخفض فيه دعوات الفساد.
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


وكان آخر كتابة حروفه بعد عشاء يوم الثلاثاء 12 المحرم 1439 هـ
الموافق 03/10/2017




[1] فقد روى الإمام الحاكم في" مستدركه" (3:476 رقم 5733 ـ الطيعة التي بتحقيق الشيخ مقبل رحمه الله تعالى) ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" (2:282) والطبراني في " الأوسط" (2/141 رقم 1508 ـ الطبعة التي بتحقيق طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني)، وقال الحاكم (صحيح على شرط مسلم زلم يخرجاه).

وفي إسناده أبو الزبير المكّي، مدلّس وقد عنعن، لكن للحديث طريق أخرى من طرق كثيرة، لكن فيها انقطاع، وهذه الطرق تدلّ على أن للحديث أصل. والقصّة مشهورة عند أهل السّيَر.



[2] انظر "فتح الباري" (8/570 ـ طبعة الفريابي).


[3] رواه البيهقي في "الدلائل" (2/282 ـ 283).


[4] "سيرة ابن هشام" (


[5] "حلية الأولياء" (1/ 143 ـ 144).


[6] رواه البخاري في "صحيحه" [ كتاب مناقب الأتصار ـ باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكّة ] (8/566 رقم 3852 ـ فتح). وقوله (ميشار) ويقال (منشار) وهو أشهر، انظر "فتح الباري" (8/571 ـ طبعة الفريابي).


رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

جديد الدروس المفرّغة

تفريغ لسلسلتين بعنوان (تسهيل مسائل الصيا…

تفريغ لسلسلتين بعنوان (تسهيل مسائل الصيام) من كتاب (المعونة على مذهب عالم المدينة) للشيخ محمد بن خدة

بسم الله الرحمن الرحيم تَفْرِيغٌ لِسِلْسِلَتَيْنِ بِعُنْوَان (تَسْهِيلُ... إقرأ المزيد

هذا تفريغ (مكتمل!) لسلسلة مباركة بعنوان…

هذا تفريغ (مكتمل!) لسلسلة مباركة بعنوان.[شرح المقدمة الآجرومية] للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن خدة

هذا تفريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان. [شرح المقدمة الآجرومية] ... إقرأ المزيد

فريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان شرح حديث …

فريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان شرح حديث جابر رضي الله عنه في صفحة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم هذا تفريغ لسلسلة مباركة قيمة... إقرأ المزيد

تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب انشراح الصدر…

تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب انشراح الصدر) pdf لفضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن خدة.

بسم الله الرحمن الرحيم. تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب... إقرأ المزيد

كل الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد بن خدة حفظه الله