المقالة (21) بعنوان (من فقه النصيحة) / لشيخنا أبي عبد الرحمن محمد بن خدة.

  • الأربعاء, 04 كانون2/يناير 2017 16:17
  • حجم الخط
  • No comment
بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

مقال شهر ربيع الثّاني 1438هـ.

من فقه النّصيحة

 

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:

 

فإنّ من أعظم معالم هذا الدّين النّصيحة لله ربّ العالمين، ولكتابه المبين، ولرسوله الأمين، ولأئمّة المسلمين، وعامّتهم أجمعين، كما جاء في حديث النّبيّ الكريم ﷺ ، ولذلك جعل العلماء هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الفقه، بل ويبنى عليها هذا الدّين، قال الإمام أبو داود في رواية عنه :[ الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن"، وقوله ﷺ :" لا ضرر ولا ضرار" و قوله :"الأعمال بالنّيات" وقوله :"الدّين النّصيحة" وقوله :"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" ][1].

 

وحقيقة النّصيحة كما قال العلماء هي من النّصح والمراد به الخلوص والصّفاء، ولذلك يقال نصحت العسل إذا خَلَّصْتَه من كلّ شائبة تَعْلَقُ به، وتُصَفِّيه من ذلك، قال الإمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى :[ النّصيحة كلمة يعبّر بها عن جملة: هي إرادة الخير للمنصوح، وأصل النّصح في اللغة الخُلوص، يقال: نصحت العسل إذا خلّصته من الشّمع.

 

فمعنى النّصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيّته، وإخلاص النّيّة في عبادته.

 

والنّصيحة لكتابه: الإيمان به، والعمل بما فيه.

 

والنّصيح لرسوله ﷺ : التّصديق بنبوّته، وبذل الطّاعة له فيما أمر به ونهى عنه. والنّصيحة لعامّة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم][2].

 

ولذلك كان النّصح في الدّين لا بد من أن يجتمع معه هذا المعنى العظيم، ألا وهو الخلوص في النّية والصفاء في القصد كذلك.

 

قال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: [ الحبّ أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبّك والآخر يخافك، فالذي يحبّك منهما ينصحك شاهدا أو غائبا لحبّه إيّاك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف ويغشّك إذا غبت ولا ينصحك ][3].

 

وقال بعض أهل العلم :[ جماع تفسير النّصيحة هو عناية القلب للمنصوح له كائنا من كان ...][4].

 

وقال كذلك :[ وأمّا النّصيحة للمسلمين فأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم ويوقّر كبير هم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإن ضرّه ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم، وإن كان في ذلك فوات ربح من يبيع من تجارته، وكذلك جميع ما يضرّهم عامّة، ويحبّ صلاحهم وَإِلْفَتَهُمْ، ودوام النّعم عليهم، ونصرَهم على عدوّهم، ودفع كلّ أذى ومكروه عنهم][5].

 

وسئل ابن المبارك: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: النّصح لله [6].

 

وقال معمر: كان يقال: أنصح النّاس لك من خاف الله فيك [7].

 

فالنّصيحة ـ إخواني ـ لا بد من أن يتمحّض فيها الإخلاص والصّدق والصّفاء والسّلامة، فالنّاصح يكون قصده الخير للمنصوح، ومحبّة السّلامة له، وأن يوفّق للحقّ، كما ظهر للنّاصح فيما يراه كذلك.

 

ولذا فمن تمام الصّدق في النّصيحة أن يكون النّاصح على شغف شديد لأن يقبل المنصوح منه نصيحته، أو أن يظهر للنّاصح أنّه لم يصب فيما قاله، فيتّفق الجميع على الحقّ ويفرح به الجميع.

 

إخواني، ما المقصود من النّصيحة؟ أليست هي داخلة تحت أصل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ أليس المراد منها أن يظهر الحقّ ويرجع إليه المنصوح، ويقع ما يرضي الله سبحانه وتعالى؟

 

لذا ـ إخواني ـ ينبغي لنا في النّصيحة المخاطبة باللّطف، والكلمة بالرّفق، والجِدّ والاجتهاد في بلوغ النّصيحة مبلغها، ولذلك قال بعص العلماء :[ ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم تعليم جاهلهم، وردّ من زاغ منهم عن الحقّ في قول أو عمل بالتّلطّف في ردّهم إلى الحقّ، والرّفق بهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، محبّة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه، كما قال بعض السّلف: وددت أنّ هذا الخلق أطاعوا الله وأنّ لحمي قُرِضَ بالمقاريض، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به، فكلّما عملت فيكم بسنّة، وقع منّي عضوٌ حتّى يكون آخر شيء منها خروج نفسي] [8].

 

فانظر ـ أخي، رحمك الله تعالى ـ إلى هذا الصّدق والصّفاء في النّصيحة، قصده أن يعمل النّاس بشرع الله تعالى، والانقياد للسّنّة، والعمل بها، وحصول الخير وزوال الشّرّ والفساد، كلّ هذا يتمنّى حصوله، ويسعى له، ويرجوه، ولو كان على حساب ضرر يقع له في دنياه، يل وبو قرض لحمه بالمقاريض.

 

الله أكبر! ولا إله إلّا الله، أيّ صدق هذا ـ إخواني ـ في الدّعوة إلى الله تعالى، والحرص على هداية النّاس إرشادا ودلالة على الحقّ، المهمّ أن يرى طاعة الله تعالى بين الناس وفي النّاس، كذلك فلنكن عباد الله، إي، وربّي، بذلك حاز القوم ما حازوه، وفازوا بما فازوا به.

 

قال أبو بكر المزني: [ما فاق أبو بكر رضي الله أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه]، علّق ابن عليّة على ذلك ـ مبيّنا معناه ـ فقال: [ الذي كان في قلبه: الحبّ لله عزّ وجلّ، والنّصيحة في خلقه] [9].

 

قال الفضيل بن عياض: [ ما أدرك عندنا ما أدرك بكثرة الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصّدر، والنّصح للأمّة][10] ، وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: [ كان من كان قبلكم إذا رأى الرّجل من أخيه شيئا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإنّ أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره] [11].

 

فلننتبه إخواني لهذا الفقه من فقه النّصيحة، ألا وهو محبّة المسلم، ومحبّة الخير له، ومحبّة أن يصله هذ الحق، وأن يعمل بهذا الخير، وأن ينتبه إليه، ولو على حساب نفسك، بضرر دنيويّ، أو فوات خير زائل، وإن تعجب فاعجب لنصيحة أحد العلماء الأفاضل في هذا الزّمان الذي نصح لأخيه ـ وهو من العلماء ـ وأخلص له النّصح، ولكن لم يرجع عمّا كان فيه، فُرُئِيَ ذلك النّاصح يبكي شفقة على المنصوح، حيث لم يرجع إلى النّصيحة التي أسداه له، وكان الفعل الذي يراه المنصوح منكرا، فكان ذلك ـ الذي بدا من شدّة حرص النّاصح ـ مؤثّرا في رجوع المنصوح إلى الحقّ بفضل الله تعالى.

 

ولا يخفاكم ـ أحبّتي في الله ـ قصّة الغلام اليهوديّ الذي كان يخدم النّبيّ ﷺ، فمرض، فأتاه النّبيّ ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم ﷺ ، فأسلم، فخرج النّبيّ ﷺ وهو يقول: " الحمد لله الذي أنقذه من النّار " [12].

 

إنّه الحرص على دعوة الآخرين بكلّ لطف ووفق ولين، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا إلى الحقّ وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يبصّرنا بأمور الدّين.


وصلى الله وسلّم على النّبيّ الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدّين.

 

[ وكتبه أبو عبد الرحمن محمد بن خدة ]


 

وكان آخره أصيل يوم السّبت

 

ثاني ربيع الثّاني لعام ثمان وثلاثين وأربعمئة وألف


من هجرة خير البريّة عليه أفضل الصّلاة وأزكى السّلام.

*************************
[1] "جامع العلوم والحكم" أوّل شرح حديث "إنّما الأعمال بالنّيات" (22).
[2] "جامع العلوم والحكم" (151 ـ 152).
[3] "جامع العلوم والحكم" (151).
[4] "جامع العلوم والحكم" (152).
[5] "جامع العلوم والحكم" (154).
[6] "جامع العلوم والحكم" (156).
[7] "جامع العلوم والحكم" (156).
[8] "جامع العلوم والحكم" (155).
[9] "جامع العلوم والحكم" (156).
[10] "جامع العلوم والحكم" (156).
[11] "جامع العلوم والحكم" (156).
[12] رواه البخاري (كتاب الجنائز ـ باب إذا اسلم الصّبيّ هل يصلّى عليه، وهل يعرض على الصّبيّ الإسلام؟ رقم 1356).

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

جديد الدروس المفرّغة

تفريغ لسلسلتين بعنوان (تسهيل مسائل الصيا…

تفريغ لسلسلتين بعنوان (تسهيل مسائل الصيام) من كتاب (المعونة على مذهب عالم المدينة) للشيخ محمد بن خدة

بسم الله الرحمن الرحيم تَفْرِيغٌ لِسِلْسِلَتَيْنِ بِعُنْوَان (تَسْهِيلُ... إقرأ المزيد

هذا تفريغ (مكتمل!) لسلسلة مباركة بعنوان…

هذا تفريغ (مكتمل!) لسلسلة مباركة بعنوان.[شرح المقدمة الآجرومية] للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن خدة

هذا تفريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان. [شرح المقدمة الآجرومية] ... إقرأ المزيد

فريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان شرح حديث …

فريغ لسلسلة مباركة قيمة بعنوان شرح حديث جابر رضي الله عنه في صفحة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم هذا تفريغ لسلسلة مباركة قيمة... إقرأ المزيد

تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب انشراح الصدر…

تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب انشراح الصدر) pdf لفضيلة الشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن خدة.

بسم الله الرحمن الرحيم. تفريغ الخطبة الرائعة (أسباب... إقرأ المزيد

كل الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد بن خدة حفظه الله