المقالة العشرون بعنوان (ثبات عقيدة السلف).
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ثبات عقيدة السلف
مقالة شّهر ربيع الأوّل 1438 هـ
الحمد لله الذي أننزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وجعل فيه من الآيات ما يستنير به أصحاب العقول وذووا الحِجَا، والصّلاة والسّلام على رسوله المصطفى نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين ما دعا عبدٌ ربَّه وما رجا، وبعد:
فقد قال الله تعالى في كتابه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ المائدة3، فقد أكمل الله تعالى لعباده الدّين، وأتمّ عليهم النّعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، عقيدة وشريعة، حكما ومنهجا، سلوكا وأخلاقا، وإنّما الدّين ما كان عليه الصّحابة الكرام، عليهم جميعا الرّضوان، فهم من عايش التّنزيل، وصَاحَب التّأويل، وعرف أوّل هذه الشّريعة قبل كلِّ من جاء بعدهم، لا يماري في ذلك إلا جاهل جهول في ظلمة الجهل، أو معتدٍ ظلوم في غياهب الظلم، ممن لم يهتد بما أشرقت به شمس الرّسالة من الهدى ودين الحقّ، ولم يستضئ بنور الكتاب والسّنّة.
لقد قال الله تعالى ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ البقرة137، فلا شكّ أنّ قوله تعالى ﴿ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أوّل من يدخل فيه هم الصّحابة الكرام عليهم الرّضوان، وهذا الذي آمن به الصّحابة يتعلّق بنواح كثيرة، من ناحية الاعتقاد والإيمان والدّين والملّة والسّنّة، وهذه كلّها ألفاظ لمعان متقاربة في مدلولاتها، لكنها تدور حول أصل واحد.
هذا الذي آمن به الصّحابة الكرام قد توارثه من بعدهم، والعلم يتوارثه أهله، وفي الحديث " والعلماء ورثة الأنبياء"[1]، فما آمن به الصّحابة الكرام قد ورثه عنهم التّابعون، وورث عن التّابعين الأتباعُ، وهلّمّ جرّا، ولذلك كان من مميِّزات هذه العقيدة ـ عقيدة السّلف ـ الثّبات، فهي عقيدة ثابتة، قال تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ إبراهيم24-25، فهذه العقيدة مستقرّة في النّفوس، كامنة في القلوب، ثابتة ثبوت الأصول، ضاربة بجذورها في تاريخ هذه الأمّة بما يدلّ على ثباتها وثبوتها أمام كلّ العواصف المغرضة، والشّبه المبتدعة، فلم تبق لأهل البلاء مقالا، ولا لأهل الجهل مجالا، ولا لمدّعٍ في العلم إقبالا، فعقيدة الإسلام عقيدة ثابتة لا تغيّرها دعوى، ولا تشوّهها شهوة، ولا تبدّلها شبهة.
وقد ظلّ سلف هذه الأمّة متمسّكين بها، بل وناقلين لها لغيرهم ممن بعدهم، وكذا من بعدهم لمن بعدهم، وهكذا يتناقلونها. وإذا تأمّلنا سيرة السّلف الأخيار فإنّنا نرى عنايتهم بهذه العقيدة وشدّة اهتمامهم بها.
ومن الدّليل على ذلك ما نجده منقولا عنهم في تقرير هذه العقيدة، سواء في كتب مقرّرة، أو أجوبة ـ على أسئلة ـ محرّرة، والتّأليف في ذا الباب كَثُرَ عدده، وتعدّدت أنواعه، من منثور أو منظوم، وبين شرح لذلك وتدليل عليه أو اختصار له، أو غير ذلك من جميع أنواع التّأليف، ولو جئنا لجمعه لما وسعه كتاب، فكيف يسعه هذا المقال المختصر.
ولكن من باب البيان ـ فقط ـ ، بيان كون هذه العقيدة، عقيدة أهل السّنّة والجماعة، عقيدة السّلف، عقيدة أصحاب الحديث، عقيدة أهل الأثر، عقيدة الإسلام، هي عقيدة ثابتة غير متغيّرة، ضاربة بجذورها في أعماق هذه الأمّة عمقا يجعلها ترفع وتدفع كلّ بلاء أرادوها به. أقول من أجل البيان لهذا الثّبات العميق، سأذكر في هذا المقال بعضا ممّن نسبت إليهم هذه العقيدة، وعمّن جاءت مسلسلة ومتّصلة، ينقلها اللاحق عن السّابق، حتى تنتهي إلى الصّحابة الكرام، أو التّابعين عليهم جميعا الرحمة والرّضوان.
إن هذه العقيدة ـ عقيدة السّلف ـ يتناقلها أئمة الإسلام، وهذا ما نجده في كتب الاعتقاد لأهل السّنّة، فقد ألّفوا في أبواب مختلفة من أبواب الاعتقاد، كما نقلوا هذه العقائد عن أئمة الإسلام، وسأسرد هاهنا كتبا لمؤلّفيها مع ذكر سنوات وفياتهم، ثمّ أذكر عمّن نقلت هذه العقائد من السّلف الصّالح.
فمن الكتب[2] المؤلّفة في هذا الباب:
رسالة في القدر كتبها الإمام مالك (ت:179هـ) إلى ابن وهب، وللإمام نعيم بن حمّاد الخزاعيّ المروزيّ (ت:229هـ) ثلاثة عشر كتابا في الرّ على الجهميّة، وللإمام أحمد (ت:241هـ) كتب كثيرة، منها: "الإيمان" و"التّشبيه" و"الإمامة" و"الرّد على الزّنادقة" و"فضائل الصّحابة" و"الزّهد"، وللإمام أبي مروان عبد الملك بن حبيب المالكيّ (ت:238هـ) "فضائل الصّحابة"، وللإمام محمد بن أسلم الطّوسيّ (ت:242هـ) "الرّد على الجهميّة"، وللإمام خشيش بن أصرم (ت:253هـ) "الاستقامة" فيه الرّد على أهل البدع، وللإمام أبي يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفسويّ (ت:277هـ) كتاب صغير في السّنّة، وللإمام أبي بكر عبد الله ابن سليمان بن الأشعث السّجستانيّ (ت:316هـ) نظم الحائيّة وهي نظم رائق في مسائل الاعتقاد، وللإمام ابن أبي حاتم (ت:327هـ) "الرّد على الجهميّة"، وللإمام ابن قتيبة الدينوريّ (ت:276هـ) "الرّد على من يقول بخلق القرآن" و"الرّد على الجهميّة"، وللإمام عثمان ابن سعيد الدّارميّ (ت:280هـ) "الرّد على بشر المرّيسيّ" و"الرّد على الجهمية"، وللإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت:290هـ) "الرّد على الجهميّة"، وللإمام محمد بن نصر المروزيّ "تعظيم قدر الصّلاة" و"السّنّة" و"الإيمان"، وللإمام أحمد بن شعيب النّسائيّ (ت:303هـ) "فضائل الصّحابة"، وللإمام محمد ابن جرير الطّبريّ (ت:310هـ) "التّبصير في معالم الدّين" و"شرح السّنّة" و"فضائل الصّحابة"، وللإمام أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغداديّ الخلّال (ت:311هـ) "السّنّة"، وللإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت:311هـ) "كتاب التّوحيد وإثبات صفات الرّبّ جلّ جلاله"، وللإمام أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكيّ الأزديّ الواسطيّ المشهور بنفطويه (ت:323هـ) "الرّد على الجهميّة"، وللإمام أبي العباس محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السّرخسيّ الدّغوليّ (ت:325هـ) "فضائل الصّحابة"، وللإمام أبي محمد الحسن بن عليّ بن خلف البربهاريّ (ت:328هـ) "شرح السّنّة"، وللإمام أبي عمر أحمد بن خالد بن يزيد القرطبيّ المعروف بابن الجباب (ت:332هـ) "كتاب الإيمان"، وللإمام أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزيّ (ت:340هـ) "السّنّة"، وللإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد النّيسابوريّ الشّافعيّ المعروف بالصبغيّ (ت:342هـ) "الأسماء والصّفات" و"الإيمان" و"القدر" و"الخلفاء الأربعة" و"الرّؤية" و"الإمامة"، وللإمام أبي الفضل بكر بن محمد بن العلاء القشيريّ البصريّ المالكيّ (ت:344هـ) له مصنّف في الرّد على أهل القدر، وللإمام أبي أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد الأصبهانيّ المعروف العسّال (ت:349هـ) "السّنّة" و"الرّؤية" و"العظمة"، وللإمام منذر بن سعيد البلوطيّ الأندلسيّ (ت:355هـ) "الإبانة عن حقائق أصول الديانة"، وللإمام أبي القاسم سليمان بن أحمد ابن أيوب بن مطير اللّخميّ الشّاميّ الطبرانيّ، صاحب المعاجم الثلاثة (ت:360هـ) "السّنّة" و"معرفة الصّحابة" و"الرّؤيةّ و"الألوية في حلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"، وللإمام أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغداديّ الآجريّ (ت:360هـ) "الشّريعة" و"الرّؤية"، وللإمام أبي أحمد محمد بن علي بن محمد الكرجيّ القصّاب (ت:360هـ) "السّنّة"، للإمام أبي الشّيخ عبد الله ابن محمد بن جعفر بم حيان الأصبهانيّ (ت:369هـ) "السّنّة" و"العظمة"، وللإمام أبي منصور محمد بن احمد بن الأزهر بن طلحة الأزهريّ الهرويّ اللّغويّ (ت:370هـ) "الأسماء الحسنى"، وللإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبريّ ابن بطّة (ت:378هـ) "الإبانة الكبرى"، وللإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيروانيّ المالكيّ (ت:386هـ) "النّهي عن الجدل" و"رسالة في الرّد على القدريّة" و"رسالة في التّوحيد" وكذا المقدّمة التي قدّم بها رسالته المشهورة في الفقه، وللإمام أبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب البستيّ (ت:388هـ) "شرح الأسماء الحسنى" و"الغنية عن الكلام وأهله"، وللإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده (ت:395هـ) "الإيمان" و"التّوحيد" و"الصّفات" و"الرّد على اللّفظيّة"، وللإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد المرّيّ الأندلسيّ الإلبيريّ المشهور بابن أبي زمنين (ت:399هـ) "أصول السّنّة"، وللإمام أبي المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس القرطبيّ المالكيّ (ت:402هـ) "فضائل الصّحابة" و"الكرامات"، وللإمام أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن نهران الإسفرايينيّ الأصوليّ الشّافعيّ (ت:418هـ) "جامع الخلي ـ وقيل: الحليّ ـ في أصول الدّين والرّد على الملحدين"، وللإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبريّ الرّازيّ الشّافعيّ اللّالكائيّ (ت:418هـ) "شرح السّنّة"، وللإمام أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهانيّ (ت:430هـ) "فضائل الصّحابة" و"النّفاق" و"صفة الجنّة"، وللإمام أبي ذرّ عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير بن محمد المعروف بابن السّماك الأنصاريّ الخرسانيّ الهرويّ المالكيّ (ت:434هـ) "السّنّة"، وللإمام أب ينصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد الوائليّ البكريّ السّجستانيّ المعروف بأبي نصر السّجزيّ (ت:444هـ) "الإبانة الكبرى في أنّ القرآن غير مخلوق"، وللإمام أبي عمرو الدّانيّ المقرئ (ت:444هـ) أرجوزة طويلة جدّا في السّنّة، وللإمام أبي عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عابد بن عامر النّيسابوريّ الصّابونيّ (ت:449هـ) "عقيدة السّلف أصحاب الحديث"، وللقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغداديّ الحنبليّ ابن الفراء (ت:458هـ) "مسائل الإيمان" و"الرّد على الكراميّة" و"الرّد على السّالميّة المجسّمة" و"الرّد على الجهميّة" و"الكلام في الاستواء"، وللإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن عليّ بن موسى البيهقيّ (ت:458هـ) "الأسماء والصّفات" و"المعتقد" و"البعث" و"شعب الإيمان" و"الرّؤية" و"فضائل الصّحابةّ"، وللإمام أبي إسماعيل
عبد الله بن محمد بن عليّ بن جعفر بن منصور بن متّ الأنصاريّ الهرويّ (ت:481هـ) "ذمّ الهوى" و"الفاروق في الصّفاتّ" و"الاربعين في التّوحيد"، وللإمام أبي بكر محمد بن مظفّر بن بكران الشّاميّ الحمويّ (ت:488هـ) "البيان في أصول الدّين"، وللإمام أبي المظفّر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التّميميّ السّمعانيّ المروزيّ (ت:489هـ) "الانتصار بالأثر" و"المنهاج لأهل السّنّة" و"القدر"، وللإمام أبي الفتح نصر بن إبراهيم بن داود النّابلسيّ المقدسيّ الشّافعيّ (ت:490هـ) "الحجّة على تارك المحجة"، وللإمام أبي الخطّاب محفوظ بن ابن أحمد بن حسن بن حسن العراقيّ الكلوذانيّ (ت:510هـ) داليّة رائقة في الاعتقاد، وللإمام أبي عليّ الحسن بن أحمد ابن الحسن بن محمد بن عليّ بن مهرة الأصبهانيّ الحدّاد (ت:515هـ) "الاثنين والسّبعين فرقة" و"حديث ا لنّزول" و"القدر"، وللإمام أبي بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهريّ الأندلسيّ الطرطوشيّ المالكيّ (ت:520هـ) "البدع والحوادث"، وللإمام أبي الحسن عليّ بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله ببن سهل بن الزّاغونيّ البغداديّ (ت:527هـ) قصيدة في العقيدة، وللإمام أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن عليّ بن أحمد بن طاهر القرشيّ التّيميّ الأصبهانيّ الملقب بقوّام السّنّة (ت:535هـ) "الحجّة في بيان المحجّة وشرح عقيدة أهل السّنّة"[3]، وللإمام أبي عبد الله محمد بن عليّ بن عمر بن محمد التّميميّ المازريّ المالكيّ (ت:536هـ) كتاب في الرّد على كتاب "إحياء علوم الدّين" وبيان ما فيه من المخالفات، وللإمام أبي المواهب الحسن بن العدل أبي البركات هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسين ابن صصري التّغلبيّ (ت:586هـ) "فضائل الصّحابة"، وللإمام أبي محمد عبد الغنيّ بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور بن رافع بم حسن بم جعفر المقدسيّ الجمّاعيليّ (ت:600هـ) "مناقب الصّحابة"، وللإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن محمد بن قدامة المقدسيّ الجمّاعيليّ (ت:620هـ) "القدر" و"مسالة العلو" و"الاعتقاد" و"ذمّ التّأويل" و"فضائل الصّحابة"، وللإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السّعديّ المقدسيّ الجمّاعيليّ (ت:643هـ) "صفة الجنّة" و"صفة النّار" و"ذكر الحوض"
و"النّهي عن سب الأصحاب"[4].
فهذه جملة من الكتب التي كتبت في اعتقاد السّلف. وجاء من بعدهم فتبعهم فيما كانوا عليه، وكتبوا في ذلك على منهج السّلف الصّالح.
وأمّا الذين تناقلوا ذلك فهم كذلك كُثُر، وقد ذكر الإمام اللّالكائيّ جملة منهم، فقد سرد اعتقاد الأئمّة، منهم سفيان الثّوريّ والأوزاعيّ وسفيان بن عيينة وأحمد ابن حنبل وعليّ بن المدينيّ وأبو ثور والبخاريّ وأبو زرعة وأبو حاتم التّستريّ والطّبريّ. وممّا نقله عن الإمام البخاريّ قوله :[ لقيت أكثر من ألف رجل ممن أهل العلم أهل الحجاز و ...]، فذكر المناطق التي دخلها ووجد أهل العلم فيها على هذا الاعتقاد، ذكر الحجاز ومكّة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشّام ومصر ومن أهل خرسان، ذكر أنّهم لقيهم غير مرّة واحدة، بل مرّات وكرّات عديدة، وكذا قال الإمام أبو حاتم وأبو زرعة :[ أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا ...]، ثمّ ذكروا أصول الاعتقاد.
وكذلك نقل شيخ الإسلام ابن تيميّة في كتابه "الحمويّة" جملة من أئمّة السّلف الذين يرون بهذا الاعتقاد ونصّوا عليه، فذكر منهم ـ زيادة على من سبق ذكرهم ـ مكحولا ومالكا والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعمر ابن عبد العزيز وربيعة بن أبي عبد الرحمن وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون والأثرم وابن بطّة وأبا عمر الطّلمنكيّ وابن أبي ذئب وأبي حنيفة وهشام بن عبيد الله الرّازيّ ويحيى بن معاذ الرّازيّ والتّرمذيّ ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأبا عبيد القاسم بن سلام وعبد الله بن المبارك وسعيد بن عامر الضّبعيّ وعبّاد بن العوّام الواسطيّ وعبد الرحمن بن مهديّ والأصمعيّ وعاصم بن عليّ بن عاصم والشّافعيّ وزهير بن عبّاد وابن وضّاح ويوسف بن عديّ وفضيل بن عياض ووكيع والخطيب البغداديّ وأبو بكر الإسماعيليّ ويحيى بن عمّار السّجزيّ وابن عبد البر النّمريّ الأندلسيّ ومعمر ابن أحمد الأصبهانيّ وعمرو بن عثمان المكّيّ والحارث المحاسبيّ وأبا عبد الله محمد بن خفيف ومعمر بن راشد وإسحاق بن راهويه والحميديّ وغيرهمخ كثير.
ونقل الإمام ابن القيّم اعتقاد السّلف في مسألة (استواء الله تعالى على العرش) عن جمهور من الأئمّة، ذكر عددا منهم في كتابه "مختصر اجتماع الجيوش الإسلاميّة" من الصّحابة والتّابعين وأتباعهم واتباع الأتباع ومن بعدهم فبلغ عددهم أزيد من أربعين ومائة أو أكثر.
وهذا القاضي عياض بن موسى السّبتيّ اليحصبيّ جمع نتابا في تراجم الأئمّة المالكيّة سمّاه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، وخلال ترجمته لكثير من هؤلاء الأئمّة يذكر ما أثر عنهم من التّمسّك بالسّنّة واعتقاد السّلف. فمن ذلك:
البهلول بن راشد، وأبو محمد عبد الله بن فرّوخ الفارسيّ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وأسد بن الفرات، وأصبغ بن الفَرَج، وأبو جعفر أحمد بن صالح، وأبو سعيد سحنون بن سعيد بن حبيب التّنّوخيّ، و محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وجبلة بن حمود بن عبد الرحمن بن جبلة الصّدفيّ، وغير هؤلاء كثير.
فهذا قليل من كثير ممّن نقل عنهم عقيدة السّلف الصّالح.
وهذا ممّا يدلّك على ثبوتها وثباتها، ورسوخها، فهي كمثل الشّجرة، أصلها ثابت وفرعها في السّماء، فأصل الشّجرة ثابت في الأرض، ومنها يبدأ نموّها وينشأ، إلى أن يعلو في السّماء، وإنّما أصل الشّجرة وبدايتها من أصل نشأتها، وهو البذر الذي يغرس أوّلا فينتب بإذن الله تعالى بعد أن ينزل عليه ماء السّماء، فتكون منه الجذور التي تمتدّ في الأرض، فتشتدّ ثباتا، ثمّ يخرج أصل الشّجرة ويعلو، وكذلك هي هذه العقيدة، فأوّل بذرتها وغرسها هو ما جاء به النّبيّ ﷺ، حيث غرزه النّبيّ ﷺ في قلوب الصّحابة الكرام عليهم الرّضوان، ولم يَزَلْ يشتدّ ويقوى بوحي السّماء الذي كان ينزل على نبيّنا ﷺ، حتّى اشتدّ أصله، وتفرّع بعد ذلك إلى من بعدهم من التّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين بإذن الله تعالى، ولا يَزَال كذلك ثابتا حتّى يأتي أمر الله تعالى.
فجذور هذه العقيدة ممتدّة إلى أصلها، وعن ذلك الأصل تفرّعت فروعها، فهي ثابتة بثبات هذا الأصل وهذه الجذور، ومن أراد أن يقطع هذه الجذور فقد قصد قطع الأصل، وليس بعد ذلك إلا الوقوع في البلاء بعينه ـ عياذا بالله تعالى ـ . فالعاقل من تمسّك بما تمسّك به الأوائل من سلفنا الصّالح، الذين حكينا كتبهم، وذكرنا أسماءهم، وقد تواردوا على عقيدة واحدة، فمن اقتفى أثرهم رشد، ومن تنكّب عن منهجهم فقد ضلّ فسد.
وبعد كتابة هذه الكلمات وجدت كلاما نحوها للشيخ أبي منصور معمّر بن أحمد ابن الزّياد الأصبهانيّ الزّاهد نقله عنه الإمام قوّام السّنّة أبي القاسم إسماعيل ابن محمد بن الفضل التّيميّ الأصبهانيّ في كتابه "الحجّة في بيان المحجّة وشرح عقيدة أهل السّنّة" ، قال رحمه الله تعالى ـ بعد أن سرد مجملا من اعتقاد وأهل السّنّة والجماعة ـ : [ فأخذ رسول الله – ﷺ - السّنة عن اللّه عزّ وجلّ، وأخذ الصّحابة عن رسول الله - ﷺَ - ، وأخذ التابعون عن الصّحابة وهؤلاء الصّحابة الّذين أشار إليهم رسول الله - ﷺَ - بالاقتداء بهم، ثمّ أشار الصّحابة إلى التّابعين بعدهم مثل: سعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، والأسود، والقاسم، وسالم، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والشعبيّ، وعمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ ومحمد بن سيرين، ثم من بعدهم مثل أيوب السّختيانيّ، ويونس بن عبيد، وسليمان التّيميّ وابن عون، ثمّ مثل سفيان الثّوريّ، ومالك بن أنس، والزهريّ، والأوزاعيّ، وشعبة، ثمّ مثل يحيى بن سعيد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، ثمّ مثل أبي عبد الله محمّد بن إدريس الشّافعي، وعبد الرّحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح وابن نمير، وأبي نعيم، والحسن بن الرّبيع، ثمّ من بعدهم مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبي مسعود الرّازيّ وأبي حاتم الرَازيّ، ونظرائهم مثل من كان من أهل الشّام، والحجاز، ومصر، وخراسان، وأصبهان، والمدينة، مثل محمّد بن عاصم، وأسيد بن عاصم، وعبد الله بن محمّد بن النّعمان، ومحمّد بن النّعمان، والنعمان ابن عبد السّلام رحمة اللَه عليهم أجمعين، ثمّ من لقيناهم وكتبنا عنهم العلم والْحَدِيث وَالسّنة مثل أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن حمزة، وأبي القاسم الطّبرانيّ، وأبي محمّد عبد الله بن محمّد بن جعفر أبي الشّيخ، ومن كان في عصرهم من أهل الحديث، ثمّ بقيّة الوقت أبو عبد الله محمّد بن إسحاق بن محمّد بن يحيى بن منده الحافظ رحمه اللَّه.
فكل هؤلاء سرج الدّين، وأئمة السّنة، وأولوا الأمر من العلماء، فقد اجتمعوا على جملة هذا الفصل من السّنة، وجعلوها فِي كتب السّنة، ويشهد لهذا الفصل المجموع من السّنة كتب الأئمّة، فأول ذلك: كتاب السّنة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وكتاب السّنة لأبي مسعود وأبي زرعة وأبي حاتم، وكتاب السّنة لعبد الله بن محمّد بن النّعمان، وكتاب السّنة لأبي عبد الله محمّد بن يوسف البنّا الصّوفي رحمهم اللّه أجمعين.
ثّم كتب السّنن للآخرين مثل أبي أحمد العسّال، وأبي إسحاق إبراهيم بن حمزة والطّبرانيّ، وأبي الشّيخ، وغيرهم ممّن ألفوا كتب السّنة، فاجتمع هؤلاء كلهم على إثبات هذا الفصل من السّنة، وهجران أهل البدعة والضلالة والإنكار على أصحاب الكلام والقياس والجدال وأن السّنة هي اتّباع الأثر والحديث والسلامة والتّسليم، والإيمان بصفات الله عزّ وجلّ من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل فجميع ما ورد من الأحاديث في الصّفات: مثل أن اللَّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته، ويد اللّه على رأس المؤذنين، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرّحمن، وأن اللّه عزّ وجلّ يضع السّموات على إصبع، والأرضين على إصبع، وسائر أحاديث الصّفات، فما صحّ من أحاديث الصّفات عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - اجتمع الأئمّة على أن تفسيرها قراءتها، قالوا: " أمروها كما جاءت "، وما ذكر اللّه في القرآن مثل قوله عزّ وجلّ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلّ من الْغَمَام﴾ البقرة210 وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفَّا﴾ الفجر22 . كل ذلك بلا كيف ولا تأويل نؤمن بها إيمان أهل السّلامة والتّسليم لأهل السّنة والسلامة واسعة بحمد لله ومنه، وطلب السّلامة في معرفة صفات اللّه عزّ وجلّ أوجب وأولى، وأقمن وأحرى، فإنّه ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء، وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ فليس كمثله شيء ينفي كل تشبيه وتمثيل، وهو السّميع البصير، ينفي كل تعطيل وتأويل، فهذا مذهب أهل السّنة والجماعة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السّنة، ومن اقتدى بهم وافق السّنة، ونحن بحمد اللّه من المقتدين بهم، المنتحلين لمذهبهم، القائلين بفضلهم، جمع اللَّه بيننا وبينهم في الدّارين، فالسنة طريقتنا، وأهل الأثر أئمّتنا، فأحيانا اللّه عليها وأماتنا برحمته إنه قريب مجيب " ][5].
فهذا ثبات هذه العقيدة، عقيدة السّلف، فلا هي من نتاج أفكار كلاميّة، ولا فيها مجادلات فلسفيّة، بل نصوص من الكتاب والسّنّة النّبويّة، ولذلك نعتقد ثباتها دائم بدوام هذه النّصوص السَّنيّة، وهي دائمة إلى أن يأتي أمر الله تعالى وأصحابها على ذلك كما قال النّبيّ ﷺ، ثبّتنا الله عليها، وأماتنا عليها، بمنّه تعالى وكرمه، والله تعالى أعلم، والحمد لله ربّ العالمين.
وكتبه أبو عبد الرحمن محمد بن خدة
وكان آخره يوم الإثنين 05 ربيع الأوّل 1438هـ
الموافق 06/12/2016
***************************************************************
[1] رواه أحمد (5/196) وأبو داود (3641) والتّرمذي (2682) وابن ماجه (223)، وسنده ضعيف، وله شواهد يصحّ بها، انظر "سلسلة الأحاديث الصّحيحة" (4/467 رقم 1852) و"المسند" (36/46) بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط ـ رحمه الله تعالى ـ.
[2] هذه الكتب منها ما هو في مسألة واحدة، ومنا ما يتضمن أكثر من مسألة واحدة، ومنها ما يجمع أبواب الاعتقاد، ومنها المطبوع، ومنها المخطوط أو ما لم يوجد، فإن قيل: ما كان منها لم يطبع أو لم يوجد ـ فهو في عداد المفقود ـ كيف تذكرونه على أنه يثبت ما تقولونه؟ فالجواب: أنّنا علمنا بذلك ممّا نُقِل إلينا عن هذه الكتب في نقول مفردة عند أهل العلم في بعض كتبهم المعتمدة في ذلك، فنجد مثلا في بعض الكتب المطبوعة نقولا عن هذه الكتب التي يقال أنّها في عداد المفقود، وانظر مثلا نقولات شيخ الإسلام ابن تيميّة في= = كتابه "الحمويّة" وغيره، والإمام ابن القيّم في كتابه "اجتماع الجيوس الإسلامية في غزو المعطّلة والجهميّة"، وهذه كتب قد اشتهرت بين النّاس، وليس لأحد أن يقول: وما الدّليل على ثبوت هذه النّسبة؟ فقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيميّة في الفتوى الحمويّة كبار علماء عصره، ولم ينكروا عليه هذه النّقول، فثبوتها ممّا لا شكّ فيه، إلا لمن أراد أن يعاند، فهذا لا سبيل إليه إلّا أن يهديه الله تعالى، نسأل الله تعالى ذلك لنا وله.
[3] وذكروا له كتاب "السّنّة"، ولعلّه هو هذا الكتاب نفسه، فقد كانوا يطلقون لفظ "السّنّة" على كتب الاعتقاد.
[4] هذه بعض الكتب التي ذكرها الإمام الذّهبيّ في متابه "سير أعلا م النّبلاء"، وقد أشار إليها الباحث الدكتور جمال بن أحمد بن بشير بادين جزاه الله خير الجزاء على جمعه هذا، وللسّلف كتب أخرى كثيرة جمعوا فيها ما يتعلّق بمسائل الاعتقاد.
[5] "الحجّة في بيان المحجّة وشرح عقيدة أهل السّنّة" (1/237 ـ 244).
رأيك في الموضوع
تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة