أحكام تتعلق بالشيب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال فضيلة الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن خدة -حفظه الله-:
قال المؤلف رحمه الله بعد ذلك في الفصل السابع
(فَصلٌ :وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيْثِ أَنَّه نُورُ اللهِ، وَهوَ أَيْضًا نَذِيرُ الْمَوْتِ، وَيُقَصّْرُ الأَمَلَ، وَحَاثٌ عَلَى حُسْنِ العَمَلِ، وَوَقَارٌ، وَيُكْرَهُ حَلْقُ القَفَا؛ إِلَّا لِمَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ، كَذَلِكَ رُوِيَ فِي السُّنَنِ.)
(فَصلٌ :وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيْثِ أَنَّه نُورُ اللهِ، وَهوَ أَيْضًا نَذِيرُ الْمَوْتِ، وَيُقَصّْرُ الأَمَلَ، وَحَاثٌ عَلَى حُسْنِ العَمَلِ، وَوَقَارٌ) الشيب معروف، وهو الشعر الأبيض الذي يطلع مع الإنسان في شعر رأسه، وفي لحيته، والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر في شمائله، لم يكن قد أصابه الشيب كثيرا، كما قال الصحابي: ولو أردت أن أعد عدد شعرات شيبه صلى الله عليه وسلم لعددتها، وذكر بعضهم أن عدده أربعة عشر، وهي في الحقيقة تصل نحو عشرين شعرة من الشيب التي كانت تتخلل بعض لحيته صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك غير واحد ممن نقل شمائله، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال (إنه لم يَبلُغْ ما يَخْضِبُ)، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغه من الشيب ما يجعله يخضّب شعره (لو شِئتُ أن أَعُدَّ شَمَطاتِه في لِحيَتِه)[1]، يعني لو أردت أن أعدّها لعددتها، وذكر أنها أربعة عشر في بعض الروايات، وفي بعض الأحاديث أنها نحو العشرين من الشعرات التي أصابها الشيب.
قال (وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ) الحكم عند أهل العلم المنع أن ينتف الشيب وأن يزال، للحديث الذي رواه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنتِفوا الشيبَ ؛ فإنه نورُ المسلمِ، من شاب شيبةً في الإسلامِ ؛ كتب اللهُ له بها حسنةً، وكفَّر عنهُ بها خطيئةً، ورفعهُ بها درجةً)[2] وجاء هذا الحديث عن أبي هريرة بإسناد حسن، والحديث صحيح، فالشيب لا ينتف، ولا يجوز أخذه ونتفه، وبخاصة إذا كان في اللحية، كما سبق ذكره يوم أمس.
قال ابن العربي رحمه الله (إنما نهى عن النتف دون الخضب، لأن فيه تغيير الخلقة عن أصلها بخلاف الخضب، فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه)[3] والله اعلم، فأجاز تخضيب اللحية كما سيأتي، ونهى عن النتف لأن النتف فيه تغيير وإزالة أصل الخلقة، أما الخضاب ففيه إبقاء أصل الخلقة، الخضاب هو تغييرها بالخضاب كالحناء أو الكتم، والكتم هو نبات باليمن يخرج، الصبغ به أصفر يميل إلى الحمرة، فالخضاب يغيرها، أما النتف فيزيلها من أصل خلقتها.
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في تخضيب اللحى إذا عمّها الشيب، فقال صلى الله عليه وسلم (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)[4] رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أي اصبغوا لحاكم وشعر الرأس إذا أصابه الشيب، وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ علَى مَشيخةٍ منَ الأنصارٍ بيضٌ لحاهم ، فقالَ (يا معشرَ الأنصارِ ! حمِّروا وصفِّروا، وخالِفوا أَهْلَ الكتابِ)[5] أي خضبوا لحاكم بالأصفر والأحمر أو نحوهما وخالفوا أهل الكتاب لأنهم لا يصبغون، أو أنهم إذا صبغوا يصبغون بالسواد، كما سيأتي بيانه.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشيب، مخالفة للأعاجم، كما جاء في رواية عند الطبراني، والتخضيب وتغيير الشيب من العلماء من يراه واجبا، كالإمام أحمد، ومنهم من يقول بوجوبه مرة واحدة، ومنهم من يرى أن لا يترك التخضيب بين مرة وأخرى لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب، وقيل هو سنة، وقيل هو مباح ومشروع، والصحابة رضي الله عنهم منهم من كان يغير الشيب كأبي بكر وعمر، ومنهم من تركه، كعليٍّ وأبيّ بن كعب رضي الله تعالى عن الجميع، وبعض العلماء قال: إنما غير الشيب من الصحابة من كان الشيب فيه على صورة تُستبشع، والذي كانت صورته غير مستبشعة فلا يغيّر الشيب، هذا حالهم في تغييره وعدم تغييره.
والأظهر والله أعلم أنه من السنة المؤكدة إن لم يكن واجبا، كما قال الإمام أحمد أن يغيّر الشيب ويخضَّب، كما أمر صلى الله عليه وسلم، وحث على ذلك، فإن قيل: ولماذا لم يخضّب هو عليه الصلاة والسلام؟ الجواب هو أنه لم يبلغ ما يخضّبه كما قال أنس رضي الله تعالى عنه، وإن كان جاءت بعض الروايات أنه وُجد من شعره ما لونه أحمر، فذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم خضّب، وهذا -قال بعض العلماء- ليس بصحيح، بل المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يخضّب، وإنما تلك الشعرات لعلها تغيّرت كثرة ادّهانه، أو لعلها شعرات كان احتفظ بها بعض الصحابة النساء أو الرجال فأصابها من طول البقاء شيء من التغيّر، فظُنّ بها الخضاب وهي ليست مخضّبة، كما نقل أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما التخضيب بالسواد فرخّص فيه بعض العلماء مطلقا، وبعضهم منعه وأجازه في الجهاد فقط حتى يظهر للعدو أن مقاتليه هم من الشباب وليسوا من الشيوخ، وبعضهم يرى أنه مكروه قال النووي والصواب أنه مكروه كراهة تحريم لأن الأمر جاء في مخالفة أهل الكتاب ومجانبة السواد، وقد قال صلى الله عليه وسلم (وجنبوه السواد)[6]، وقال صلى الله عليه وسلم (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود)[7] وفي رواية لمسلم أنه أمر بتغيير الشيب وقال (وجنبوه السواد)، ويُروى في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال (يَكونُ قومٌ يخضِبونَ في آخرِ الزَّمانِ بالسَّوادِ كحواصلِ الحمامِ لا يريحونَ رائحةَ الجنَّةِ)[8]، وهذا يدل على أنه إنما يخضّب من غير السواد، فالتخضيب بالسواد هو سبيل النصارى والمجوس واليهود، كما جاء في هذه الأحاديث، وفي الحديث الذي رواه مسلم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قحافة بأن يغير شيبه وبأن يجنبه السواد.
وبعض العلماء أجاز التغيير بالسواد للمرأة دون الرجل، ومنهم من أجازه حتى للرجال، وكان يأذن به كسعد بن الوقاص وعمرو بن عامر والحسن والحسين وجرير، واختاره ابن أبي عاصم، والأقوى أنه لا يجوز تغيير الشيب بالسواد، وإنما يغيّر بالخضاب، يخضّب بالحناء أو الكتم وهو لون يميل من السواد إلى الحمرة، أو بلون أصفر كالزعفران ونحو ذلك، فهذا يجوز التخضيب به، وأما غير ذلك فممنوع.
(فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيْثِ أَنَّه نُورُ اللهِ) قد ذكرناه، قوله (نور الله) إضافة تشريف، كإضافة بيت الله، وناقة الله (وَهوَ أَيْضًا نَذِيرُ الْمَوْتِ) لم يأت في ذلك أثر يبين هذا، وإنما من باب الغالب، الغالب أن الشيب يصيب كبار السن، وإن كان أحيانا قد يشيب الصغير، وأحيانا قد يكون كبيرا في السن ولا يصيبه الشيب، لكن الغالب أن أول ما ينبت الشيب في الرجل دلالة على كبره وتقدم سنه، ولهذا قال (نَذِيرُ الْمَوْتِ) يعني قرب الأجل، وقربه من سن الوفاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( أعمارُ أمتي ما بين السِّتِّينَ إلى السبعينَ)[9].
(وَيُقَصّْرُ الأَمَلَ) رؤية الشيب في شعر رأسه يقصّر الأمل، ويرى أنه قريب الأجل، وأنه قريب إلى القبر منه إلى دنياه.
(وَحَاثٌ عَلَى حُسْنِ العَمَلِ) يعني الذي يصيبه الشيب، ويرى قصر الأمل، وقرب الأجل، وقلّة العمل، يكون ذلك دافعا له إلى العمل، وإحسانه والإكثار منه.
(وَوَقَارٌ) وقار للإنسان، وجود الشيب عليه يدل على وقاره، وهذا واقع في الناس، من احترامهم لصاحب الشيب، فيوقّر ويحترم وينزّل منزلته.
[من سلسلة شرح متن "فصول في الآداب والأخلاق المشروعة"]
فرغه أبو مالك إبراهيم الفوكي.
[1] [صحيح البخاري 5895]
[2] [تخريج مشكاة المصابيح 4384: إسناده حسن]
[3] [انظر تحفة الأحوذي 7/233]
[4] [متفق عليه]
[5] [جلباب المرأة المسلمة 185: إسناده حسن رجاله كلهم ثقات غير القاسم وهو حسن الحديث]
[6] [ السلسلة الصحيحة الصفحة: 1/895 إسناده صحيح على شرط مسلم ]
[7] [ صحيح الترمذي 1752 صحيح]
[8] [ صحيح أبي داود: 4212 صحيح]
[9] [صحيح ابن ماجة 3433 حسن صحيح ]
رأيك في الموضوع
تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة